كل شارع في بيروت يمكنك أن تصعد أو تنزل به. يتعلق ذلك بالجهة التي تأتي منها إليه. الشوارع المركزيّة، مثل الحمراء والجمّيزة، تكون مستوية. ومنها تتفرّع المنحدرات صعودًا ونزولاً. أغلبية شوارع بيروت الساحقة، هي طلعات ونزلات في الوقت نفسه. بيروت كلها، سفح شرس وعنيف صعوده منهك ومتعب. وفي الوقت ذاته بيروت كلها منحدر سهل نتدحرج عليه بفرح نحو كورنيش البحر.
بيروت هي كل شيء وعكسه في اللحظة ذاتها، لذا لا يمكنك الحديث عن مدينة واحدة، فذلك يرتبط أساسا بالزاوية التي ترى منها. يمكنك مثلاً أن تراها كفلسطيني من الداخل، كانت وما زالت بيروت مدينة الأحلام الممنوعة بالنسبة لك، وها أنت تدخل إليها وتراها لأول مرة وتنبهر بكلّ شيء من حولك. ولكنك في الوقت ذاته، وخاصةً لأنك تراها كفلسطيني، لا يمكنك أن تنبهر ببيروت. الانبهار مهنة السائح، وأنت لست سائحًا هنا.
لك في هذه المدينة قصّة وحصّة. لك أغانٍ من الطفولة. لك صفحات بكتب التاريخ. لك ابن عمّة استشهد فيها. بين الدكّان والمقهى طريق تمشيها لأول مرّة، لكنك تعرف كل أسماء شوارعها من أغنيتين ومسرحيّة. تدفع ألف ليرة فتعبر بك الحافلة رقم أربعة عند خط التماس الذي خطّ الحصّة الأعظم من قصّتنا. محال تجاريّة على اسم عائلات كلها موجودة في حيفا. تلتقي صدفة بزميل لك يكتب في الجريدة تعرفه منذ عام، وتراه لأوّل مرة. تلتقي رجلاً لا تعرفه وتصنّفه عدوًا بسبب وشم على ذراعه. أنت لا تستطيع أن تكون غريبًا في بيروت.
ولكن السبب ذاته الذي يمنعك من أن تكون سائحًا غريبًا هنا - انك فلسطيني - هو عينه الذي يخلق أزمة الاغتراب كلّها. ما يقرّبك من بيروت هو ذاته ما يبعدك عنها. إنها تصدم. فترتد أنت وتبتعد من قوة الصدمة. هنا كثافة نحن لا نعرفها. كثافة سياسية مهووسة على وجه المكان. كل زاوية «خبريّة». كل «كوع» اغتيال. كل شارع حزب. كل جسر غارة. كل مقهى شاعر. وحيث لا تجد أي شيء من هذا، تجد طفلاً سوريًا يذكرك بأن الحرب ليست ذكرى. هذه كثافة نحن لا نعرفها. كثافة السياسة في فلسطين زمنيّة بالأساس. انتشرت على رقعة واسعة من الدول بين الأردن وتونس ولبنان والأرض المحتلة وغيرها. لكنّ ميّزتها الأساسيّة سرعة التحوّلات، لا ضيق أرضها.
هذه المدينة تنتظر الحرب دائمًا. رغم أن شيئا من معالمها لا يوحي بذلك. تنتظر الحرب من دون أن تتجهّز لها. كأنها امرأة جميلة جاهزة للحفلة دائمًا من دون حاجة للتزيّن. تواجد قوى الأمن في الشوارع ليس جديًا. اذهبوا إلى رام الله لتفهموا ما هو التواجد الجديّ. الحرب هنا لا يمكنها أن تفاجئ أحدا. أمس، انتبهت لأوّل مرة الى أن عددًا كبيرًا من الناس يحيّون أصدقاءهم عنـدما يفـترقون في آخر الليل بعبارة: «انتبه ع حالك».
ولكن هذه الحرب ذاتها، هي ما يولّد الحاجة الماسّة للسياسة. وذلك أجمل ما في بيروت. هنا كل شيء يصخب بالسياسة، والسياسة تتربّص بكل شيء. الشأن السياسي العام هو الشرط الأساسيّ للثقافة وللصحافة. انحساره يتحوّل قضيّة متداولة، واتساعه قد يفتح الباب للبدائل. وهذه ليس عندنا منها. فإن كان لبنان كلّه لا يملك سببًا واحدًا مقنعًا ليعود إلى الحرب ولكنه دائم الاستعداد لها والتحدّث بها. عندنا نحن كل الأسباب المقنعة لتبدأ الحرب غدًا ولكننا نعرف أنها لن تبدأ، ونتكّل على أنها لن تبدأ، ولا نستعد لأي شيء. لا أستطيع أن أتخيّل الحرب، ولو للحظة واحدة، بهذه اللهجة اللبنانيّة. يا أخي، كيف مرّوا بسنوات الحرب هذه ولا زالت اللهجة المشبعة بالفرنسيّة بذات الرقّة والغنج رغم كل ما تتطلبه الحرب من وحشيّة؟ هذا سرّ لا يعرفه إلا الفرنسيّون الذين قتلوا شعوبًا بأكملها من دون أن تنطفئ الشموع على طاولة الأجبان.
نُحب بيروت. ليس لنفسها بل لما ليس عندنا. نُحب بيروت لأننا ليس عندنا مكتبة. لأننا لا نملك دولة نشتمها. لأن «الإسلاميين» عندنا، مهما زاد ظلمهم، يتحصنون بالوحدة الوطنيّة ضد الاحتلال. لأننا لا نستطيع احتضان أخوتنا السوريين وتضميد جرحهم. لأنك تدخل اعتصام الطلبة لتخفيض الأقساط بثقة، وتشارك عمّال الكهرباء بثقة، فهم لا يمتّون للإسرائيليين بصلة. المأساة الأولى تحت الاحتلال أنه يتصدر أولويّاتك فيجعلك تُهمل نفسك إلى أقصى الدرجات كارثيّة. أما بيروت، حتى وإن لم تمتلك مسرحا لامعا، وحتى إن بقي اللاجئ السوري جائعا فيها، حتى وإن لم تستمـع السلطة لمطالب العمّال والطلـبة، تبقـى إمكانيّة الحياة السياسيّة في المجتمع واردة. لكنها ليست واردة تحت احتلال.
بيروت غريبة جدًا. غريبة بقدر ما هي قريبة. تشبهنا جدًا جدًا، نحن في حيفا، لكنها تشبهنا بعد الاستعمار. بيروت هي صورة حيفا بعد الاستعمار. ونحن الذين نخشى رؤية أنفسنا بعد الاستعمار، تُطعمنا بيروت صورتها وصورتنا، حلوةً ومرّة، لنتعلّم منها كلّ شيء. بيروت وحيفا؟ هذه صورة تذكاريّة لأخت كبيرة تُطعم اختها الصغرى ملعقة تلو ملعقة من صحن الحياة الممكنة.
[ينشر ضمن اتقاقية شراكة وتعاون بين جدلية وجريدة "السفير"]